فقه الدعوة.. وفقه الواقع..تعليما وتدريبا!
لا زلت أحرص في محاضراتي على أن أغرس في نفوس طلابي فقه الدعوة إلى الله تعالى، وأرسخ فيهم مفاهيمه، وأشرح لهم أسسه، تقربا إلى الله تعالى، واستشعارا لأمانة المسؤولية عن هؤلاء الطلاب، فهم كأبنائي، فما أحب أن يصنع مع أبنائي أصنعه معهم؛ وغرضي أن أصنع منهم نماذج سوية نفسيا وفكريا تقدمها الجامعة الأزهرية هدية إلى مجتمعها ووطنها وأمتها، لضبط مسار العمل الدعوي، الذي أصابه الكثير من الخلل، واعترضه الكثير من العقبات!
ومفهوم فقه الدعوة عندي - إن كان لي عند - يعني الفهم الكامل المتكامل لرسالة الإسلام، وموضوعها ووسائلها وأساليبها ومقاصدها، وما يحيط بها من مشكلات وعقبات، والتفكير الإبداعي لإزالتها والتغلب عليها، في ضوء فقه الواقع!
ومن أسس هذا الفقه الإحاطة بالمخططات والمؤامرات الفكرية التي تحاك للمسلمين، من خلال التلاعب ببعض المفاهيم الدينية عندهم، مستغلة بعض الجماعات المؤدلجة للترويج لتلك المفاهيم، مثل مفهوم الجهاد، وتغيير المنكر، والدولة، والحكم، والخلافة، والعلاقة مع الآخر!
ومن أسسه - أي فقه الدعوة - اختيار الأحكام الفقهية المناسبة لحاجة المجتمع وفق الظروف الراهنة، بما يتفق ومقاصد التشريع الإسلامي، وذلك من خلال التراث العظيم الذي خلفه فقهاؤنا الأقدمون، وكان مما يناسب حاجة عصرهم في كثير من الأحيان، ولو عاشوا بيننا الآن لغيروا كثيرا من هذه الأحكام!
ومن نماذج ذلك مسألة عدم بدء اليهود والنصارى بالسلام؛ فإن ذلك مما يمكن فهمه على أنه في وقت الحرب، أو في ظرف خاص ليس له حكم العموم، وإلا فالأصل بذل السلام للعالم، وقد روي عن بعض السلف أنه كان يسلم عليهم ويقول: أليس في رحمة الله يعيش؟!
فما دام قد وجد في تراثنا الفقهي الفسيح رأي بجواز ذلك عن بعض السلف - وهم أتقى لله منا، وأبعد عن الهوى والغرض -، وهو مما يناسب حاجة العصر في ضرورة التعايش السلمي بين الطوائف المختلفة داخل المجتمع الواحد، ولم نخترعه من تلقاء أنفسنا؛ فما المانع من الأخذ به؟!
على أنه حتى وإن لم يقل به أحد من الفقهاء القدامى؛ فلا مانع من استحداث القول به، بناء على اجتهاد العلماء في ضوء قواعد الاجتهاد ومتطلبات العصر، لا سيما وأن الشريعة جاءت لتحقيق مصالح العباد، والتيسير عليهم، ورفع الحرج عنهم، لا إيقاعهم فيه، كما قال تعالى: "ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى"، ووصف الله شريعته في غير موضع من كتابه بأنها "هدى ورحمة"، ووصف نبيه صلى الله عليه وسلم بأنه "رحمة للعالمين"، وهذا يقتضي الأخذ من أقوال الفقهاء بما يناسب حاجة الناس وييسر عليهم، ولو أدى ذلك إلى الأخذ بأضعف الأقوال في الظاهر - فلعلها الحق عند الله تعالى - مثلما أخذ قانون الأحوال الشخصية المصري برأي ابن تيمية في مسألة الطلاق في الحيض، والطلاق الثلاث، والحلف بالطلاق، تخفيفا على الناس، ورحمة بهم، وحماية للأسر من التفكك، نظرا لعموم البلوى بالطلاق!
مع أن ابن تيمية متهم في كثير من الدوائر المحلية والعالمية؛ بأنه رائد التطرف الفكري!
وهذا مما يحسب لأهل الحل والعقد في مصر - بفضل وجود الأزهر الشريف فيها - فهم لا يهدرون الرجل جملة وتفصيلا، بل يأخذون منه ويدعون، فهم يحاكمون فكره لا شخصه!
وهذا ما يمكن أن نفهمه من قول أمير المؤمنين في الحديث سفيان الثوري: إنما الفقه رخصة من ثقة، أما التشدد فيحسنه كل أحد!
ومن دلالات هذه العبارة أن الفقيه كلما تمكن في الفقه؛ كان جنوحه إلى الترخيص أمكن، وكلما قل رصيده منه؛ كان جنوحه إلى التشديد أظهر وأبين!
ومن النماذج الدالة على الأخذ بفقه الدعوة أيضا؛ مسألة تارك الصلاة عمدا، فمذهب الإمام أحمد أنه كافر بتعمده ترك الصلاة حتى وإن كان معترفا بوجوبها، وأنه يقتل كفرا لا حدا، ولا يصلى عليه، ولا يدفن في مقابر المسلمين!
وهو الذي يفتي به علماء آخرون - كما في فتاواهم المنشورة - ويرونه راجحا على رأي الجمهور!
ومن هنا تدرك السر وراء التطرف الفكري، الذي ابتلي به هؤلاء، وسرت عدواه إلى غيرهم!
وخالفه الجمهور - الأئمة الثلاثة: أبو حنيفة ومالك والشافعي - فقالوا: إنه مسلم عاص، ولا يستوجب القتل، إلا بإنكاره فرض الصلاة أصلا!
قلت للطلاب: لا يمكن الأخذ بمذهب الإمام أحمد في عصرنا؛ لعموم البلوى بترك الصلاة، وما دام عندنا من المذاهب ما نرفع به الحرج على الناس من المذاهب الفقهية المعتبرة؛ فلماذا نشدد عليهم؟!
ومن نماذجه أيضا؛ الصلاة في المساجد التي بها أضرحة، فرأي الجمهور صحة الصلاة فيها، فلماذا العدول عن هذا الرأي إلى الرأي القائل بالبطلان، والقائل به قلة، بل ندرة، ويلزم على الأخذ به إيقاع جمهور المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها في الحرج؛ لكونهم يصلون في المسجد النبوي الشريف وفيه ثلاثة قبور مشرفة، بل وفي المسجد الحرام نفسه سبعون نبيا مدفونون بين الركن والمقام، فضلا عن المساجد التي بها أضرحة، والمنتشرة في بقاع العالم، ويصلي فيها خيار العلماء وأفاضل الناس؟!
وبينا أنا أفكر في موضوع هذه الخاطرة؛ إذ سمعت إماما وخطيبا بوزارة الأوقاف المصرية - عن غير قصد لأنه كان يتحدث في الهاتف بصوت عال - يفتي أحدا بأن المنتحر - أظنه قال: كافر مخلد في النار، أو مرتكب كبيرة، لا أدري أيهما قال - ولكني أجزم بأنه قال: لا يصلى عليه، وشدد في ذلك، ونسبه إلى دار الإفتاء المصرية!
فاستنكرت ذلك منه، واتصلت بالزملاء في دار الإفتاء، مستفسرا عن ذلك، فنفوه جملة وتفصيلا!
وطلبت من المسؤولين في الأوقاف تدريب رجالهم على فقه الدعوة ممزوجا بفقه الواقع!
إننا بحاجة ماسة إلى نعلم أبناءنا في الجامعة الأزهرية - وهم دعاة الغد - ومن باب أولى الدعاة بالفعل؛ مدى واقعية هذا الدين، وأنه جاء لتحقيق مصالح الناس في كل زمان ومكان، بالعدل والرحمة، وذلك يقتضي أن نغرس في نفوسهم فقه الدعوة، الذي تربطه بفقه الواقع وشيجة من نسب، حتى لا يعيشوا بمعزل عن الواقع وهم من أبنائه، وعن روح التشريع الإسلامي وهم من دعاته!
- البناء المنهجي لطالب العلم إذا كان حدثا :
يقتضي أن يلوذ بالستر حتى يكتمل بناؤه، وتقوى أعضاؤه!
وأن يكون سماعه أكثر من كلامه، وقراءته أكثر من كتابته، واختفاؤه أكثر من ظهوره، وتعلمه أكثر من تعليمه!
فمتى رأيت الطالب - وهو حدث - متعجلا للظهور، مغرما بالتصوير، محبا للشهرة؛ فاعلم أنه لن يفلح في العلم، وإن أفلح في غيره، إلا من رحم الله!
فإن الصغير إذا تتبعته العيون؛ أفسدته، أو كادت أن تفسده!
والحدث من لم يكتمل بناؤه المنهجي وإن كان ابن سبعين سنة، كما وقع في بعض كلام السادة أهل الله، نفعنا الله بهم!
- خلاصة تجربتي في البحث العلمي..!
فرض علي موضوع رسالة الماجستير، ضمن خطة وضعها القسم لتحقيق بعض المخطوطات، وما بعد ذلك من مشاريع علمية - بدءا من الدكتوراه وما تلاها من بحوث -؛ هو من بنات أفكاري، من خلال قراءاتي المكثفة في التخصص وغيره، والانكباب على الكتب بجميع أنواعها، الورقية والإلكترونية، حتى كنت أقرأ قرابة خمس عشرة ساعة في اليوم والليلة، في مختلف العلوم والفنون والثقافات، واقفا وجالسا وماشيا وراكبا ونائما ومتكئا وآكلا وشاربا، وترك فضول المخالطة، والانجماع على النفس، والاجتماع بالمشايخ، ومذاكراتهم ومباحثتهم بمسائل العلم، مع توقيرهم وخدمتهم والقيام بحقهم، فكانوا يدعون لي بالبركة، ويفتحون لي قلوبهم وبيوتهم ومكتباتهم، فنفعني الله بذلك!
وما تسولت فكرة من أحد، ولا طلبت إعداد خطة، كل شيء صنعته بيدي بتوفيق الله تعالى، كنت أقرأ كثيرا قبل أن أكتب، وأكتب بقلمي لا بقلم غيري، وبفهمي لا بفهم غيري، أكتب فيما يشغلني من أفكار وأطروحات، لا فيما يشغل غيري، كنت أبحث عن حلول وإجابات لكل ما يعترضني من مشكلات وتساؤلات، كنت أريد بناء تصور كامل عن كل شيء، كنت أريد أن أصل إلى جوهر الحقيقة، كان هدفي تحصيل العلم، لا نيل الشهادة!
وأكثر ما أعانني على ذلك - بعد فضل الله تعالى - صحبة الصالحين، ومرافقة المفلحين!
- لست محبوسا في قمقم التصوف، ولا أنا درويش بسبحة، إنما أنا رجل من أهل العلم، أعيش واقع مجتمعي، وأعرف علله وأدويته، وما أريد إلا الإصلاح له - ما استطعت - ولكن على منهج العلماء الربانيين، لا على منهج الماديين القاصرين!
رأيت أقواما حسبوا أنفسهم على أقوام، فذهبوا بذهابهم، حين ذهبت دولتهم!
ورأيت أقواما حسبوا أنفسهم على الله، فما ذهبوا!
من تعلق بالفاني فني، ومن تعلق بالباقي بقي!
.........................…................................................
- لمن تعذر عليه وجود الشيخ المربي في هذا الزمان!
الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم؛ تقوم مقام الشيخ المربي عند عدمه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم شيخ الأمة الأعظم، والصلاة عليه توصلك إليه، فتتصل روحك بروحه، فتحصل التربية والتزكية والتصفية والتخلية والتحلية والتجلية والتنقية والترقية!
واعلم أن تعلق المريد بشيخه؛ إنما هو تعلق روح بروح، لا تعلق جسد بجسد؛ لأن الروح ميدان التربية عندهم، وشيوخ الروح لا يموتون، وشيوخ الأجساد يموتون؛ لأن الروح لا تموت، فما تعلق بها لا يموت، وما قارب الشيء يأخذ حكمه.
اللهم اجمع بيني وبين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم جسدا وروحا، يقظة ومناما، ظاهرا وباطنا، دنيا وآخرة!
فضيلة الدكتور محمد ابراهيم العشماوي
أستاذ علم الحديث جامعة الأزهر
لا زلت أحرص في محاضراتي على أن أغرس في نفوس طلابي فقه الدعوة إلى الله تعالى، وأرسخ فيهم مفاهيمه، وأشرح لهم أسسه، تقربا إلى الله تعالى، واستشعارا لأمانة المسؤولية عن هؤلاء الطلاب، فهم كأبنائي، فما أحب أن يصنع مع أبنائي أصنعه معهم؛ وغرضي أن أصنع منهم نماذج سوية نفسيا وفكريا تقدمها الجامعة الأزهرية هدية إلى مجتمعها ووطنها وأمتها، لضبط مسار العمل الدعوي، الذي أصابه الكثير من الخلل، واعترضه الكثير من العقبات!
ومفهوم فقه الدعوة عندي - إن كان لي عند - يعني الفهم الكامل المتكامل لرسالة الإسلام، وموضوعها ووسائلها وأساليبها ومقاصدها، وما يحيط بها من مشكلات وعقبات، والتفكير الإبداعي لإزالتها والتغلب عليها، في ضوء فقه الواقع!
ومن أسس هذا الفقه الإحاطة بالمخططات والمؤامرات الفكرية التي تحاك للمسلمين، من خلال التلاعب ببعض المفاهيم الدينية عندهم، مستغلة بعض الجماعات المؤدلجة للترويج لتلك المفاهيم، مثل مفهوم الجهاد، وتغيير المنكر، والدولة، والحكم، والخلافة، والعلاقة مع الآخر!
ومن أسسه - أي فقه الدعوة - اختيار الأحكام الفقهية المناسبة لحاجة المجتمع وفق الظروف الراهنة، بما يتفق ومقاصد التشريع الإسلامي، وذلك من خلال التراث العظيم الذي خلفه فقهاؤنا الأقدمون، وكان مما يناسب حاجة عصرهم في كثير من الأحيان، ولو عاشوا بيننا الآن لغيروا كثيرا من هذه الأحكام!
ومن نماذج ذلك مسألة عدم بدء اليهود والنصارى بالسلام؛ فإن ذلك مما يمكن فهمه على أنه في وقت الحرب، أو في ظرف خاص ليس له حكم العموم، وإلا فالأصل بذل السلام للعالم، وقد روي عن بعض السلف أنه كان يسلم عليهم ويقول: أليس في رحمة الله يعيش؟!
فما دام قد وجد في تراثنا الفقهي الفسيح رأي بجواز ذلك عن بعض السلف - وهم أتقى لله منا، وأبعد عن الهوى والغرض -، وهو مما يناسب حاجة العصر في ضرورة التعايش السلمي بين الطوائف المختلفة داخل المجتمع الواحد، ولم نخترعه من تلقاء أنفسنا؛ فما المانع من الأخذ به؟!
على أنه حتى وإن لم يقل به أحد من الفقهاء القدامى؛ فلا مانع من استحداث القول به، بناء على اجتهاد العلماء في ضوء قواعد الاجتهاد ومتطلبات العصر، لا سيما وأن الشريعة جاءت لتحقيق مصالح العباد، والتيسير عليهم، ورفع الحرج عنهم، لا إيقاعهم فيه، كما قال تعالى: "ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى"، ووصف الله شريعته في غير موضع من كتابه بأنها "هدى ورحمة"، ووصف نبيه صلى الله عليه وسلم بأنه "رحمة للعالمين"، وهذا يقتضي الأخذ من أقوال الفقهاء بما يناسب حاجة الناس وييسر عليهم، ولو أدى ذلك إلى الأخذ بأضعف الأقوال في الظاهر - فلعلها الحق عند الله تعالى - مثلما أخذ قانون الأحوال الشخصية المصري برأي ابن تيمية في مسألة الطلاق في الحيض، والطلاق الثلاث، والحلف بالطلاق، تخفيفا على الناس، ورحمة بهم، وحماية للأسر من التفكك، نظرا لعموم البلوى بالطلاق!
مع أن ابن تيمية متهم في كثير من الدوائر المحلية والعالمية؛ بأنه رائد التطرف الفكري!
وهذا مما يحسب لأهل الحل والعقد في مصر - بفضل وجود الأزهر الشريف فيها - فهم لا يهدرون الرجل جملة وتفصيلا، بل يأخذون منه ويدعون، فهم يحاكمون فكره لا شخصه!
وهذا ما يمكن أن نفهمه من قول أمير المؤمنين في الحديث سفيان الثوري: إنما الفقه رخصة من ثقة، أما التشدد فيحسنه كل أحد!
ومن دلالات هذه العبارة أن الفقيه كلما تمكن في الفقه؛ كان جنوحه إلى الترخيص أمكن، وكلما قل رصيده منه؛ كان جنوحه إلى التشديد أظهر وأبين!
ومن النماذج الدالة على الأخذ بفقه الدعوة أيضا؛ مسألة تارك الصلاة عمدا، فمذهب الإمام أحمد أنه كافر بتعمده ترك الصلاة حتى وإن كان معترفا بوجوبها، وأنه يقتل كفرا لا حدا، ولا يصلى عليه، ولا يدفن في مقابر المسلمين!
وهو الذي يفتي به علماء آخرون - كما في فتاواهم المنشورة - ويرونه راجحا على رأي الجمهور!
ومن هنا تدرك السر وراء التطرف الفكري، الذي ابتلي به هؤلاء، وسرت عدواه إلى غيرهم!
وخالفه الجمهور - الأئمة الثلاثة: أبو حنيفة ومالك والشافعي - فقالوا: إنه مسلم عاص، ولا يستوجب القتل، إلا بإنكاره فرض الصلاة أصلا!
قلت للطلاب: لا يمكن الأخذ بمذهب الإمام أحمد في عصرنا؛ لعموم البلوى بترك الصلاة، وما دام عندنا من المذاهب ما نرفع به الحرج على الناس من المذاهب الفقهية المعتبرة؛ فلماذا نشدد عليهم؟!
ومن نماذجه أيضا؛ الصلاة في المساجد التي بها أضرحة، فرأي الجمهور صحة الصلاة فيها، فلماذا العدول عن هذا الرأي إلى الرأي القائل بالبطلان، والقائل به قلة، بل ندرة، ويلزم على الأخذ به إيقاع جمهور المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها في الحرج؛ لكونهم يصلون في المسجد النبوي الشريف وفيه ثلاثة قبور مشرفة، بل وفي المسجد الحرام نفسه سبعون نبيا مدفونون بين الركن والمقام، فضلا عن المساجد التي بها أضرحة، والمنتشرة في بقاع العالم، ويصلي فيها خيار العلماء وأفاضل الناس؟!
وبينا أنا أفكر في موضوع هذه الخاطرة؛ إذ سمعت إماما وخطيبا بوزارة الأوقاف المصرية - عن غير قصد لأنه كان يتحدث في الهاتف بصوت عال - يفتي أحدا بأن المنتحر - أظنه قال: كافر مخلد في النار، أو مرتكب كبيرة، لا أدري أيهما قال - ولكني أجزم بأنه قال: لا يصلى عليه، وشدد في ذلك، ونسبه إلى دار الإفتاء المصرية!
فاستنكرت ذلك منه، واتصلت بالزملاء في دار الإفتاء، مستفسرا عن ذلك، فنفوه جملة وتفصيلا!
وطلبت من المسؤولين في الأوقاف تدريب رجالهم على فقه الدعوة ممزوجا بفقه الواقع!
إننا بحاجة ماسة إلى نعلم أبناءنا في الجامعة الأزهرية - وهم دعاة الغد - ومن باب أولى الدعاة بالفعل؛ مدى واقعية هذا الدين، وأنه جاء لتحقيق مصالح الناس في كل زمان ومكان، بالعدل والرحمة، وذلك يقتضي أن نغرس في نفوسهم فقه الدعوة، الذي تربطه بفقه الواقع وشيجة من نسب، حتى لا يعيشوا بمعزل عن الواقع وهم من أبنائه، وعن روح التشريع الإسلامي وهم من دعاته!
- البناء المنهجي لطالب العلم إذا كان حدثا :
يقتضي أن يلوذ بالستر حتى يكتمل بناؤه، وتقوى أعضاؤه!
وأن يكون سماعه أكثر من كلامه، وقراءته أكثر من كتابته، واختفاؤه أكثر من ظهوره، وتعلمه أكثر من تعليمه!
فمتى رأيت الطالب - وهو حدث - متعجلا للظهور، مغرما بالتصوير، محبا للشهرة؛ فاعلم أنه لن يفلح في العلم، وإن أفلح في غيره، إلا من رحم الله!
فإن الصغير إذا تتبعته العيون؛ أفسدته، أو كادت أن تفسده!
والحدث من لم يكتمل بناؤه المنهجي وإن كان ابن سبعين سنة، كما وقع في بعض كلام السادة أهل الله، نفعنا الله بهم!
- خلاصة تجربتي في البحث العلمي..!
فرض علي موضوع رسالة الماجستير، ضمن خطة وضعها القسم لتحقيق بعض المخطوطات، وما بعد ذلك من مشاريع علمية - بدءا من الدكتوراه وما تلاها من بحوث -؛ هو من بنات أفكاري، من خلال قراءاتي المكثفة في التخصص وغيره، والانكباب على الكتب بجميع أنواعها، الورقية والإلكترونية، حتى كنت أقرأ قرابة خمس عشرة ساعة في اليوم والليلة، في مختلف العلوم والفنون والثقافات، واقفا وجالسا وماشيا وراكبا ونائما ومتكئا وآكلا وشاربا، وترك فضول المخالطة، والانجماع على النفس، والاجتماع بالمشايخ، ومذاكراتهم ومباحثتهم بمسائل العلم، مع توقيرهم وخدمتهم والقيام بحقهم، فكانوا يدعون لي بالبركة، ويفتحون لي قلوبهم وبيوتهم ومكتباتهم، فنفعني الله بذلك!
وما تسولت فكرة من أحد، ولا طلبت إعداد خطة، كل شيء صنعته بيدي بتوفيق الله تعالى، كنت أقرأ كثيرا قبل أن أكتب، وأكتب بقلمي لا بقلم غيري، وبفهمي لا بفهم غيري، أكتب فيما يشغلني من أفكار وأطروحات، لا فيما يشغل غيري، كنت أبحث عن حلول وإجابات لكل ما يعترضني من مشكلات وتساؤلات، كنت أريد بناء تصور كامل عن كل شيء، كنت أريد أن أصل إلى جوهر الحقيقة، كان هدفي تحصيل العلم، لا نيل الشهادة!
وأكثر ما أعانني على ذلك - بعد فضل الله تعالى - صحبة الصالحين، ومرافقة المفلحين!
- لست محبوسا في قمقم التصوف، ولا أنا درويش بسبحة، إنما أنا رجل من أهل العلم، أعيش واقع مجتمعي، وأعرف علله وأدويته، وما أريد إلا الإصلاح له - ما استطعت - ولكن على منهج العلماء الربانيين، لا على منهج الماديين القاصرين!
رأيت أقواما حسبوا أنفسهم على أقوام، فذهبوا بذهابهم، حين ذهبت دولتهم!
ورأيت أقواما حسبوا أنفسهم على الله، فما ذهبوا!
من تعلق بالفاني فني، ومن تعلق بالباقي بقي!
.........................…................................................
- لمن تعذر عليه وجود الشيخ المربي في هذا الزمان!
الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم؛ تقوم مقام الشيخ المربي عند عدمه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم شيخ الأمة الأعظم، والصلاة عليه توصلك إليه، فتتصل روحك بروحه، فتحصل التربية والتزكية والتصفية والتخلية والتحلية والتجلية والتنقية والترقية!
واعلم أن تعلق المريد بشيخه؛ إنما هو تعلق روح بروح، لا تعلق جسد بجسد؛ لأن الروح ميدان التربية عندهم، وشيوخ الروح لا يموتون، وشيوخ الأجساد يموتون؛ لأن الروح لا تموت، فما تعلق بها لا يموت، وما قارب الشيء يأخذ حكمه.
اللهم اجمع بيني وبين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم جسدا وروحا، يقظة ومناما، ظاهرا وباطنا، دنيا وآخرة!
فضيلة الدكتور محمد ابراهيم العشماوي
أستاذ علم الحديث جامعة الأزهر
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق