لئن وقع في وهمك أنني صوفي مبتدع؛ لقد ظلمتني ظلما عظيما، وظلمت نفسك!
ما أنا إلا محب على نهج الشريعة، متسلح بالعلم، بحاث عن الخير، رجاع إلى الحق، وقاف على الحد!
فإياك والوهم!
وإياك والظلم!
حين ترى أزهريا تخرج في كلية الشريعة، لا يستطيع تكييف المسألة، ولا تصورها فقهيا، ولا الحكم عليها منهجيا، فيتكلم فيها كما يتكلم العوام؛ فعلى كلية الشريعة السلام!
فهو يرى - مثلا - المنع من زيارة الأولياء؛ لأن زيارتهم ذريعة إلى الشرك، وهي من شد الرحل المنهي عنه في غير المساجد الثلاثة، كما يرى عدم جواز الصلاة في مساجدهم؛ للعن اليهود والنصارى على اتخاذ قبور أنبيائهم مساجد، ويرى أن هذا هو الفكر الوسطي، وما سواه فكر متطرف!
يا ولدي: حرر موضع النزاع أولا، ثم بين سبب الخلاف، ثم قارن، ثم رجح بالدليل المعتبر!
هكذا علمناك!
وبمنطق أتباعه..شيخ الإسلام ابن تيمية قبوري، مشرك، ضال، وهذا هو الدليل!
قال - رحمه الله - في كتابه: (اقتضاء الصراط المستقيم؛ مخالفة أصحاب الجحيم)، بالنص:
"ولا يدخل في هذا الباب - يعني باب الدعاء عند القبر - ما يروى من أن قوما سمعوا رد السلام من قبر النبي ﷺ، أو قبور غيره من الصالحين، وأن سعيد بن المسيب كان يسمع الأذان من القبر ليالي الحرة، ونحو ذلك.
فهذا كله حق، ليس مما نحن فيه، والأمر أجل من ذلك وأعظم!
وكذلك أيضا ما يروى أن رجلا جاء إلى قبر النبي ﷺ، فشكا إليه الجدب عام الرمادة، فرآه وهو يأمره أن يأتي عمر، فيأمره أن يخرج، فيستسقي الناس!
فإن هذا ليس من هذا الباب، ومثل هذا يقع كثيرا لمن هو دون النبي ﷺ، وأعرف من هذه الوقائع كثيرا!
وكذلك سؤال بعضهم للنبي ﷺ، أو لغيره من أمته حاجته، فتقضى له؛ فإن هذا قد وقع كثيرا، وليس هو مما نحن فيه!
...فهذا القدر إذا وقع يكون كرامة لصاحب القبر، أما أنه يدل على حسن حال السائل؛ فلا، فرق بين هذا وهذا؛ فإن الخلق لم ينهوا عن الصلاة عند القبور واتخاذها مساجد استهانة بأهلها، بل لما يخاف عليهم من الفتنة، وإنما تكون الفتنة إذا انعقد سببها، فلولا أنه قد يحصل عند القبور ما يخاف الافتتان به؛ لما نهي الناس عن ذلك!
وكذلك ما يذكر من الكرامات وخوارق العادات التي توجد عند قبور الأنبياء والصالحين؛ مثل نزول الأنوار والملائكة عندها، وتوقي الشياطين والبهائم لها، واندفاع النار عنها وعمن جاورها، وشفاعة بعضهم في جيرانه من الموتى، واستحباب الاندفان عند بعضهم، وحصول الأنس والسكينة عندها، ونزول العذاب بمن استهان بها؛ فجنس هذا حق، ليس مما نحن فيه!
وما في قبور الأنبياء والصالحين من كرامة الله ورحمته، وما لها عند الله من الحرمة والكرامة؛ فوق ما يتوهمه أكثر الخلق، لكن ليس هذا موضع تفصيل ذلك"!
قلت: فبالله ماذا أقول، وأي شيء يقال بعد ما قيل؟!
ولو جرد هذا الكلام من قائله - ابن تيمية - ونسب إلى غيره، ممن ليس على منهجه؛ لعقدت له محاكم التفتيش، وصدرت ضده أحكام الكفر والضلال!
إنا لله، وإنا إليه راجعون، اللهم أجرنا في مصيبتنا، وأخلف لنا خيرا منها!
شاع بين العوام أن يقولوا للعلماء: ما الدليل على ما تقولون من الكتاب والسنة؟!
وهذا تنطع مذموم، وصاحبه ملوم، فليس من شأن العوام أن يسألوا العلماء عن أدلة أقوالهم وفتاواهم، كما لا يسألون الأطباء عن أدلتهم من كتب الطب، ولا المهندسين عن أدلتهم من كتب الهندسة، وهكذا في سائر التخصصات!
وذلك لأن العوام لا علم لهم بمسالك العلماء في الاستدلال، ولا بطرائقهم في الاستنباط، ولا بمناهجهم في تنزيل النصوص على الواقع، والأدلة الشرعية لا تنحصر في الكتاب والسنة - كما يعرفه طالب الفرقة الأولى في كلية الشريعة -!
كما أن الأصل في العلماء أنهم ثقات مؤتمنون على الشريعة، فيسلم لهم كما يسلم لغيرهم في كل فن، من غير سؤال عن مستند كلامهم، ولا يجوز العدول عن هذا الأصل إلا بموجب!
فإن تطوع العلماء بذكر الأدلة للعوام؛ فذلك محض تفضل منهم، وليس بواجب عليهم؛ لأن أقوالهم بالنسبة للعوام؛ كالأدلة بالنسبة للمجتهدين، كما قرره الشاطبي في (الموافقات) أحسن تقرير!
والمقصود بالعوام هنا: كل من ليس من أهل التخصص الشرعي، وإن كان أعلم أهل الأرض بغيره من التخصصات، فيدخل فيه الجاهل والأمي من باب أولى!
والمقصود بالعلماء هنا: المتخصصون المجتهدون، لا مجرد حملة الشهادات الرسمية، فكم من حامل شهادة لا يدري ما العلم!
فأمثالنا بالنسبة للأطباء عوام في الطب، والأطباء بالنسبة لنا عوام في الشريعة، وهكذا في كل فن، والعاقل من لم يعد قدره، ولم يجاوز طوره.
- الانتفاع والتبرك بالصالحين بعد مماتهم؛ كالانتفاع والتبرك بهم في حياتهم!
وصفني بعضهم بأنني قبوري؛ لمجرد أنني أحب زيارة قبور الصالحين، وأنتفع بها روحيا، وأجد فيها أنسي وراحتي؛ ولأن الله شرفني بأن أكون من أهل العلم؛ فلا أفعل شيئا ولا أتركه إلا ببينة، وقد ثبتت لدي البينة على صحة زيارة قبور الصالحين للانتفاع والتبرك بهم، عن أعلام الأمة ومحققيها من أهل السنة، فإن كان هؤلاء قبوريين أو مبتدعين؛ فأنا مثلهم!
قال حجة الإسلام الإمام الغزالي، (الشافعي)، في (الإحياء):
"زيارة القبور مستحبة على الجملة؛ للتذكر والاعتبار، وزيارة قبور الصالحين؛ لأجل التبرك مع الاعتبار، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن زيارة القبور، ثم أذن في ذلك بعد".
وقال الإمام النووي، (الشافعي) أيضا، في (روضة الطالبين):
"يجوز للمسلم والذمي الوصية لعمارة المسجد الأقصى وغيره من المساجد، ولعمارة قبور الأنبياء والعلماء والصالحين؛ لما فيها من إحياء الزيارة، والتبرك بها".
وقال الإمام ابن عابدين، (الحنفي)، في (رد المحتار):
" قال الخير الرملي: "إن كان ذلك - أي زيارة النساء للقبور - لتجديد الحزن والبكاء والندب - على ما جرت به عادتهن -؛ فلا تجوز، وعليه حمل حديث «لعن الله زائرات القبور».
وإن كان للاعتبار، والترحم - من غير بكاء - والتبرك بزيارة قبور الصالحين؛ فلا بأس، إذا كن عجائز، ويكره إذا كن شواب، كحضور الجماعة في المساجد. اهـ". وهو توفيق حسن".
وقال الإمام ابن الحاج، (المالكي)، في (المدخل) - وقد ألفه لمحاربة البدع -:
"ثم يتوسل بأهل تلك المقابر - أعني بالصالحين منهم - في قضاء حوائجه، ومغفرة ذنوبه، ثم يدعو لنفسه ولوالديه ولمشايخه ولأقاربه ولأهل تلك المقابر ولأموات المسلمين ولأحيائهم وذريتهم إلى يوم الدين ولمن غاب عنه من إخوانه، ويجأر إلى الله تعالى بالدعاء عندهم، ويكثر التوسل بهم إلى الله تعالى؛ لأنه سبحانه وتعالى اجتباهم وشرفهم وكرمهم، فكما نفع بهم في الدنيا ففي الآخرة أكثر، فمن أراد حاجة فليذهب إليهم ويتوسل بهم؛ فإنهم الواسطة بين الله تعالى وخلقه، وقد تقرر في الشرع وعلم ما لله تعالى بهم من الاعتناء، وذلك كثير مشهور، وما زال الناس من العلماء والأكابر، كابرا عن كابر، مشرقا ومغربا؛ يتبركون بزيارة قبورهم، ويجدون بركة ذلك حسا ومعنى، وقد ذكر الشيخ الإمام أبو عبد الله بن النعمان – رحمه الله – في كتابه المسمى (بسفينة النجاء لأهل الالتجاء في كرامات الشيخ أبي النجاء)، في أثناء كلامه على ذلك؛ ما هذا لفظه: "تحقق لذوي البصائر والاعتبار؛ أن زيارة قبور الصالحين محبوبة لأجل التبرك مع الاعتبار؛ فإن بركة الصالحين جارية بعد مماتهم كما كانت في حياتهم، والدعاء عند قبور الصالحين، والتشفع بهم؛ معمول به عند علمائنا المحققين من أئمة الدين. انتهى".
وأما كيفية الانتفاع والتبرك بهم وهم أموات؛ فقال الإمام فخر الدين الرازي في (المطالب)، في الفصل الثالث عشر، في بيان كيفية الانتفاع بزيارة القبور والموتى:
"إن الإنسان إذا ذهب إلى قبر إنسان قوي النفس، كامل الجواهر، ووقف هناك ساعة، وحصل تأثير في نفسه، حين حصل من الزائر تعلق بزيارة تلك التربة؛ فلا يخفى أن لنفس ذلك الميت تعلقا بتلك التربة أيضا، فحينئذ يحصل لنفس الزائر الحي، ولنفس ذلك الإنسان الميت ملاقاة، بسبب إجماعهما على تلك التربة، فصار هاتان النفسان شبيهتين بمرآتين صقيلتين متقابلتين، بحيث ينعكس الشعاع من كل واحدة منهما إلى الأخرى، فكل ما حصل في نفس هذا الزائر الحي في المعارف والبراهين والعلوم الكسبية والأخلاق الفاضلة، من الخشوع لله تعالى، والرضا بقضاء الله تعالى؛ ينعكس منه نور إلى روح ذلك الإنسان الميت، وكل ما حصل في ذلك الإنسان الميت من العلوم المشرقة، والآثار القوية الكاملة؛ ينعكس من نور إلى روح هذا الحي الزائر، وبهذه الطريقة تصير تلك الزيارة سببا لحصول تلك المنفعة الكبرى، والبهجة العظمى لروح هذا الزائر!
فهذا هو السبب والأصل في مشروعية الزيارة، ولا يبعد أن يحصل منها أسرار أخرى أدق وأخفى مما ذكرنا، وتمام الحقائق ليس إلا عند الله تعالى". انتهى كلام الرازي.
هذه بعض النصوص التي وقفت عليها سريعا، من كلام الأئمة المحققين من أهل السنة، وأعلام المجتهدين في الملة المحمدية من أهل المذاهب الفقهية والكلامية، ولو زدت في البحث لوجدت أكثر!
ولو جردت هذه النصوص من قائليها، ونسبتها إلى نفسي؛ لاقتضى ذلك عند بعضهم الحكم علي بالشرك، ومراغمة عقيدة التوحيد، والترويج للبدعة، فكيف والقائل به أعلام الأئمة، ومصابيح الأمة، وحملة لواء السنة؟!
كفى استغفالا للجماهير باسم التوحيد!
رأيي في الموالد:
قلته من قبل، وأقوله الآن، أرى أن تقتصر الموالد على الاحتفالات في المساجد، بتلاوة آيات القرآن الكريم، وعقد مجالس الذكر، وسماع دروس العلم، والابتهالات والمدائح النبوية، ولا بأس بتوزيع طعام خفيف وبعض الحلوى، مع الحفاظ على حرمة المساجد، وتجنب الاختلاط الفاحش، والخلوة المحرمة، والسماع الماجن، وبهذا تتحقق الحكمة من الموالد بإحياء ذكرى الصالحين بطريقة مشروعة، وتجتنب المنكرات التي تحدث في الموالد بصورتها الحالية، وحيث أمكن الجمع بين وجهات النظر المختلفة تعين المصير إليه، والتعويل عليه، وبالله التوفيق.
فضيلة الشيخ الدكتور محمد ابراهيم العشماوي
أستاذ علم الحديث جامعة الأزهر
ما أنا إلا محب على نهج الشريعة، متسلح بالعلم، بحاث عن الخير، رجاع إلى الحق، وقاف على الحد!
فإياك والوهم!
وإياك والظلم!
حين ترى أزهريا تخرج في كلية الشريعة، لا يستطيع تكييف المسألة، ولا تصورها فقهيا، ولا الحكم عليها منهجيا، فيتكلم فيها كما يتكلم العوام؛ فعلى كلية الشريعة السلام!
فهو يرى - مثلا - المنع من زيارة الأولياء؛ لأن زيارتهم ذريعة إلى الشرك، وهي من شد الرحل المنهي عنه في غير المساجد الثلاثة، كما يرى عدم جواز الصلاة في مساجدهم؛ للعن اليهود والنصارى على اتخاذ قبور أنبيائهم مساجد، ويرى أن هذا هو الفكر الوسطي، وما سواه فكر متطرف!
يا ولدي: حرر موضع النزاع أولا، ثم بين سبب الخلاف، ثم قارن، ثم رجح بالدليل المعتبر!
هكذا علمناك!
قال - رحمه الله - في كتابه: (اقتضاء الصراط المستقيم؛ مخالفة أصحاب الجحيم)، بالنص:
"ولا يدخل في هذا الباب - يعني باب الدعاء عند القبر - ما يروى من أن قوما سمعوا رد السلام من قبر النبي ﷺ، أو قبور غيره من الصالحين، وأن سعيد بن المسيب كان يسمع الأذان من القبر ليالي الحرة، ونحو ذلك.
فهذا كله حق، ليس مما نحن فيه، والأمر أجل من ذلك وأعظم!
وكذلك أيضا ما يروى أن رجلا جاء إلى قبر النبي ﷺ، فشكا إليه الجدب عام الرمادة، فرآه وهو يأمره أن يأتي عمر، فيأمره أن يخرج، فيستسقي الناس!
فإن هذا ليس من هذا الباب، ومثل هذا يقع كثيرا لمن هو دون النبي ﷺ، وأعرف من هذه الوقائع كثيرا!
وكذلك سؤال بعضهم للنبي ﷺ، أو لغيره من أمته حاجته، فتقضى له؛ فإن هذا قد وقع كثيرا، وليس هو مما نحن فيه!
...فهذا القدر إذا وقع يكون كرامة لصاحب القبر، أما أنه يدل على حسن حال السائل؛ فلا، فرق بين هذا وهذا؛ فإن الخلق لم ينهوا عن الصلاة عند القبور واتخاذها مساجد استهانة بأهلها، بل لما يخاف عليهم من الفتنة، وإنما تكون الفتنة إذا انعقد سببها، فلولا أنه قد يحصل عند القبور ما يخاف الافتتان به؛ لما نهي الناس عن ذلك!
وكذلك ما يذكر من الكرامات وخوارق العادات التي توجد عند قبور الأنبياء والصالحين؛ مثل نزول الأنوار والملائكة عندها، وتوقي الشياطين والبهائم لها، واندفاع النار عنها وعمن جاورها، وشفاعة بعضهم في جيرانه من الموتى، واستحباب الاندفان عند بعضهم، وحصول الأنس والسكينة عندها، ونزول العذاب بمن استهان بها؛ فجنس هذا حق، ليس مما نحن فيه!
وما في قبور الأنبياء والصالحين من كرامة الله ورحمته، وما لها عند الله من الحرمة والكرامة؛ فوق ما يتوهمه أكثر الخلق، لكن ليس هذا موضع تفصيل ذلك"!
قلت: فبالله ماذا أقول، وأي شيء يقال بعد ما قيل؟!
ولو جرد هذا الكلام من قائله - ابن تيمية - ونسب إلى غيره، ممن ليس على منهجه؛ لعقدت له محاكم التفتيش، وصدرت ضده أحكام الكفر والضلال!
إنا لله، وإنا إليه راجعون، اللهم أجرنا في مصيبتنا، وأخلف لنا خيرا منها!
شاع بين العوام أن يقولوا للعلماء: ما الدليل على ما تقولون من الكتاب والسنة؟!
وهذا تنطع مذموم، وصاحبه ملوم، فليس من شأن العوام أن يسألوا العلماء عن أدلة أقوالهم وفتاواهم، كما لا يسألون الأطباء عن أدلتهم من كتب الطب، ولا المهندسين عن أدلتهم من كتب الهندسة، وهكذا في سائر التخصصات!
وذلك لأن العوام لا علم لهم بمسالك العلماء في الاستدلال، ولا بطرائقهم في الاستنباط، ولا بمناهجهم في تنزيل النصوص على الواقع، والأدلة الشرعية لا تنحصر في الكتاب والسنة - كما يعرفه طالب الفرقة الأولى في كلية الشريعة -!
كما أن الأصل في العلماء أنهم ثقات مؤتمنون على الشريعة، فيسلم لهم كما يسلم لغيرهم في كل فن، من غير سؤال عن مستند كلامهم، ولا يجوز العدول عن هذا الأصل إلا بموجب!
فإن تطوع العلماء بذكر الأدلة للعوام؛ فذلك محض تفضل منهم، وليس بواجب عليهم؛ لأن أقوالهم بالنسبة للعوام؛ كالأدلة بالنسبة للمجتهدين، كما قرره الشاطبي في (الموافقات) أحسن تقرير!
والمقصود بالعوام هنا: كل من ليس من أهل التخصص الشرعي، وإن كان أعلم أهل الأرض بغيره من التخصصات، فيدخل فيه الجاهل والأمي من باب أولى!
والمقصود بالعلماء هنا: المتخصصون المجتهدون، لا مجرد حملة الشهادات الرسمية، فكم من حامل شهادة لا يدري ما العلم!
فأمثالنا بالنسبة للأطباء عوام في الطب، والأطباء بالنسبة لنا عوام في الشريعة، وهكذا في كل فن، والعاقل من لم يعد قدره، ولم يجاوز طوره.
- الانتفاع والتبرك بالصالحين بعد مماتهم؛ كالانتفاع والتبرك بهم في حياتهم!
وصفني بعضهم بأنني قبوري؛ لمجرد أنني أحب زيارة قبور الصالحين، وأنتفع بها روحيا، وأجد فيها أنسي وراحتي؛ ولأن الله شرفني بأن أكون من أهل العلم؛ فلا أفعل شيئا ولا أتركه إلا ببينة، وقد ثبتت لدي البينة على صحة زيارة قبور الصالحين للانتفاع والتبرك بهم، عن أعلام الأمة ومحققيها من أهل السنة، فإن كان هؤلاء قبوريين أو مبتدعين؛ فأنا مثلهم!
قال حجة الإسلام الإمام الغزالي، (الشافعي)، في (الإحياء):
"زيارة القبور مستحبة على الجملة؛ للتذكر والاعتبار، وزيارة قبور الصالحين؛ لأجل التبرك مع الاعتبار، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن زيارة القبور، ثم أذن في ذلك بعد".
وقال الإمام النووي، (الشافعي) أيضا، في (روضة الطالبين):
"يجوز للمسلم والذمي الوصية لعمارة المسجد الأقصى وغيره من المساجد، ولعمارة قبور الأنبياء والعلماء والصالحين؛ لما فيها من إحياء الزيارة، والتبرك بها".
وقال الإمام ابن عابدين، (الحنفي)، في (رد المحتار):
" قال الخير الرملي: "إن كان ذلك - أي زيارة النساء للقبور - لتجديد الحزن والبكاء والندب - على ما جرت به عادتهن -؛ فلا تجوز، وعليه حمل حديث «لعن الله زائرات القبور».
وإن كان للاعتبار، والترحم - من غير بكاء - والتبرك بزيارة قبور الصالحين؛ فلا بأس، إذا كن عجائز، ويكره إذا كن شواب، كحضور الجماعة في المساجد. اهـ". وهو توفيق حسن".
وقال الإمام ابن الحاج، (المالكي)، في (المدخل) - وقد ألفه لمحاربة البدع -:
"ثم يتوسل بأهل تلك المقابر - أعني بالصالحين منهم - في قضاء حوائجه، ومغفرة ذنوبه، ثم يدعو لنفسه ولوالديه ولمشايخه ولأقاربه ولأهل تلك المقابر ولأموات المسلمين ولأحيائهم وذريتهم إلى يوم الدين ولمن غاب عنه من إخوانه، ويجأر إلى الله تعالى بالدعاء عندهم، ويكثر التوسل بهم إلى الله تعالى؛ لأنه سبحانه وتعالى اجتباهم وشرفهم وكرمهم، فكما نفع بهم في الدنيا ففي الآخرة أكثر، فمن أراد حاجة فليذهب إليهم ويتوسل بهم؛ فإنهم الواسطة بين الله تعالى وخلقه، وقد تقرر في الشرع وعلم ما لله تعالى بهم من الاعتناء، وذلك كثير مشهور، وما زال الناس من العلماء والأكابر، كابرا عن كابر، مشرقا ومغربا؛ يتبركون بزيارة قبورهم، ويجدون بركة ذلك حسا ومعنى، وقد ذكر الشيخ الإمام أبو عبد الله بن النعمان – رحمه الله – في كتابه المسمى (بسفينة النجاء لأهل الالتجاء في كرامات الشيخ أبي النجاء)، في أثناء كلامه على ذلك؛ ما هذا لفظه: "تحقق لذوي البصائر والاعتبار؛ أن زيارة قبور الصالحين محبوبة لأجل التبرك مع الاعتبار؛ فإن بركة الصالحين جارية بعد مماتهم كما كانت في حياتهم، والدعاء عند قبور الصالحين، والتشفع بهم؛ معمول به عند علمائنا المحققين من أئمة الدين. انتهى".
وأما كيفية الانتفاع والتبرك بهم وهم أموات؛ فقال الإمام فخر الدين الرازي في (المطالب)، في الفصل الثالث عشر، في بيان كيفية الانتفاع بزيارة القبور والموتى:
"إن الإنسان إذا ذهب إلى قبر إنسان قوي النفس، كامل الجواهر، ووقف هناك ساعة، وحصل تأثير في نفسه، حين حصل من الزائر تعلق بزيارة تلك التربة؛ فلا يخفى أن لنفس ذلك الميت تعلقا بتلك التربة أيضا، فحينئذ يحصل لنفس الزائر الحي، ولنفس ذلك الإنسان الميت ملاقاة، بسبب إجماعهما على تلك التربة، فصار هاتان النفسان شبيهتين بمرآتين صقيلتين متقابلتين، بحيث ينعكس الشعاع من كل واحدة منهما إلى الأخرى، فكل ما حصل في نفس هذا الزائر الحي في المعارف والبراهين والعلوم الكسبية والأخلاق الفاضلة، من الخشوع لله تعالى، والرضا بقضاء الله تعالى؛ ينعكس منه نور إلى روح ذلك الإنسان الميت، وكل ما حصل في ذلك الإنسان الميت من العلوم المشرقة، والآثار القوية الكاملة؛ ينعكس من نور إلى روح هذا الحي الزائر، وبهذه الطريقة تصير تلك الزيارة سببا لحصول تلك المنفعة الكبرى، والبهجة العظمى لروح هذا الزائر!
فهذا هو السبب والأصل في مشروعية الزيارة، ولا يبعد أن يحصل منها أسرار أخرى أدق وأخفى مما ذكرنا، وتمام الحقائق ليس إلا عند الله تعالى". انتهى كلام الرازي.
هذه بعض النصوص التي وقفت عليها سريعا، من كلام الأئمة المحققين من أهل السنة، وأعلام المجتهدين في الملة المحمدية من أهل المذاهب الفقهية والكلامية، ولو زدت في البحث لوجدت أكثر!
ولو جردت هذه النصوص من قائليها، ونسبتها إلى نفسي؛ لاقتضى ذلك عند بعضهم الحكم علي بالشرك، ومراغمة عقيدة التوحيد، والترويج للبدعة، فكيف والقائل به أعلام الأئمة، ومصابيح الأمة، وحملة لواء السنة؟!
كفى استغفالا للجماهير باسم التوحيد!
رأيي في الموالد:
قلته من قبل، وأقوله الآن، أرى أن تقتصر الموالد على الاحتفالات في المساجد، بتلاوة آيات القرآن الكريم، وعقد مجالس الذكر، وسماع دروس العلم، والابتهالات والمدائح النبوية، ولا بأس بتوزيع طعام خفيف وبعض الحلوى، مع الحفاظ على حرمة المساجد، وتجنب الاختلاط الفاحش، والخلوة المحرمة، والسماع الماجن، وبهذا تتحقق الحكمة من الموالد بإحياء ذكرى الصالحين بطريقة مشروعة، وتجتنب المنكرات التي تحدث في الموالد بصورتها الحالية، وحيث أمكن الجمع بين وجهات النظر المختلفة تعين المصير إليه، والتعويل عليه، وبالله التوفيق.
فضيلة الشيخ الدكتور محمد ابراهيم العشماوي
أستاذ علم الحديث جامعة الأزهر
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق